الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله

وبعد:

فلقد حكم الله تعالى ولا معقب لحكمه بعدم قبول أي دين إلا دين الإسلام، وبعدم أحقية أي دين غير دين الإسلام بالفلاح والنجاح في الدنيا ولا في الآخرة التي هي مدار الأعمال ومنتهى الإرادات، إذ الأعمال بخواتيمها والمشاريع بنتائجها فما كانت خاتمته جهنم ونتيجته الخسارة فأولى له ان لا يُبتغَي ديناً ولا منهجاً في هذه الحياة، قال تعالى {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.

وكون الإسلام هو الدين الحق الذي لا يُقبل غيره ولا يُتخذ سواه ديناً، فلأنه دين الله تعالى، كما قدَّم الله تعالى في أول الآيات {أفغير دين الله يبغون وله اسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً واليه يرجعون}.

قال ابن كثير رحمه الله: (يقول تعالى منكراً على من أراد ديناً سوى دين الله الذي انزل به كتبه وأرسل به رسله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له الذي له اسلم من في السماوات والأرض، أي استسلم له من فيهما طوعاً وكرهاً، كما قال تعالى {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً... الآية}، وقال تعالى {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون* ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دآبة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون... الآية}.

وقد بعث الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالإسلام بشيراً ونذيراً فأقام به الحجة وأتم به النعمة وختم به الرسالة وجعل شرعه مهيمناً وكتابه محفوظاً، وأرسله في وسط جاهلية منحرفة ضالة لا تعرف للحق سبيلاً إلا سبيل الآباء والأجداد من الشرك وعبادة غير الله الواحد سبحانه وتعالى، فدعاهم صلى الله عليه وسلم إلى منهج الله الرشيد وشرعه المحكم ودينه القويم وامرهم ان يعبدوا الله وحده ويُخلصوا له الدين ويُسلموا له قلوبهم وجوارحهم فينقادوا لشرعه ويأتمروا بأمره وينتهوا عن نهيه، ورغم العنت الشديد والابتلاء العظيم واضطهاد الكفار للمسلمين وفتنتهم عن دينهم، إلا ان ذلك لم يُثن الرجال عن مبادئهم وحبهم للحق الذي آمنوا به وضحوا في سبيله فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم رجال، والتَّف حوله أبطال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً، وكان من حسن إسلامهم وصدق إيمانهم ان رضي الله تعالى عنهم وجعلهم قدوةً لمن يأتي بعدهم، قال تعالى {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}.

توحيد مصدر التلقي :

ولقد احسن الصحابة رضي الله عنهم التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من حسن إسلامهم إذ لا يتم إسلام المرء حتى يجعل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم المرجع في كل أمر والحكم في كل شأن، ولهذا قال الله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلموا تسليماً}.

قال ابن كثير رحمه الله (يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن احد حتى يُحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً، ولهذا قال {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلموا تسليماً}، أي إذا حكموك يُطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، كما ورد في الحديث " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ").

ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى صحيفة من التوراة في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأن ذلك يُخالف ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم من توحيد مصدر التلقي والأخذ عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

والصحابة رضي الله عنهم لما أحسنوا التلقي احسنوا الفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ففهموا أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم على مراد الله عز وجل ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، فلما صَفَتْ مفاهيمهم من شوائب المناهج الأُخرى وأدران الأديان الوضعية وخزعبلات الملل المُحرفة، بلغت نفوسهم القمة السامقة والدرجة الرفيعة التي لا تدانيها درجة فاستعلوا بإيمانهم على كل شئ وأنتجت تلك المفاهيم آثاراً ارتقوا بها إلى درجة المثال فصار المثال واقعاً ملموساً.

فلا عجب إذاً ان ينطلقوا فاتحين لينصروا دين الله تعالى مستعلين على حطام الدنيا الزائل، لأنهم فهموا ان دين الله هو الحق الذي لا مرية فيه وان ما سواه باطل وأجدر ان يُقتلع من جذوره من الأرض {فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تُصرفون}، وقال الله تعالى {قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق ان يُتبع أمن لا يَهِدِّي إلا ان يُهدى فمالكم كيف تحكمون}.

لقد أيقن الجيل الأول رضي الله عنهم ان دين الله ليس نِحلةً من نِحل الأرض الجاهلية ولا ملة تسير في خط موازٍ لباقي الملل بل هو الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض، وبُعثت من أجله الرسل، وجُرِّدت في سبيل أقامته السيوف، {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه (أُمرت ان أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويُقيموا الصلاة ويُؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) [متفق عليه].

وما فَعَل الصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه ما فعل، عندما دخل على رستم قائد الفرس لا يعبأ بصولجانه ولا بهيلمانه؛ إلا من آثار فهمه الحق لدين الله تعالى، وقوله : (الله تعالى ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام)، دليل على ذلك.

وحين ينحرف فهم الناس للإسلام تنحرف كذلك آثارهم إذ كل إناء بما فيه ينضح.
فعندما يُنظر إلى الإسلام بنظرة الفكرة التي من الممكن ان تحتمل الخطأ - حاشا دين الله -
فعندها يُوضع على طاولة الاختبار وتُجرى عليه القرعة ولا يُحمل عليه الناس حملاً بالحق تنفيذاً لأمر الله تعالى حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وعندما يُنظر إلى الإسلام على انه ملة كسائر ملل الأرض، عندها لا عجب ان تُعقد المؤتمرات وتُشكل الجمعيات للمؤاخاة بين الأديان، وعندها لا يُستغرب ان يعيش المسلم أي عيشة شاء وتحت أي ظرف كان لان المهم أن ينتسب إلى الإسلام

ولله دَرُّ الشاعر لما قال :
إذا ما جذوة الإسلام لم تُشعل براكينا
أكانت حُرقة الإيمان تزييفاً وتلوينا
أ كانت رنة القرآن تغريداً وتلحينا
أ كانت تلكم الأفواج أرقاماً تُسَلّينا
فمن للحق يجلوه إذا كلَّت أيادينا
ومن للغاية الكبرى إذا قَصُرت أمانينا
ومن للأمة الغرقى إذا كنا الغريقينا

0 commentaires

إرسال تعليق