باب قول الله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ؛ هذا الباب في بيان عبادة الخوف ومناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة، وهي أن خوف العبد من الله -جل وعلا- عبادة من العبادات التي أوجبها الله -جل وعلا- الخوف والمحبة والرجاء عبادات قلبية واجبة، وتكميلها تكميل للتوحيد، والنقص فيها نقص في كمال التوحيد، والخوف من غير الله -جل وعلا- ينقسم إلى ما هو شرك، وإلى ما هو محرم، وإلى ما هو مباح، فهذه ثلاثة أقسام:


القسم الأول: الخوف الشركي وهو خوف السر يعني: أن يخاف في داخله من هذا المخوف منه، وخوفه لأجل ما عند هذا المخوف منه مما يرجوه أو يخافه من أن يمسه سرا بشرك، أو أنه يملك له في آخرته ضرا أو نفعا، فالخوف الشركي متعلق في الدنيا بالخوف السري بأن يخاف أن يصيبه ذلك الإله بشر.

وذلك شرك، وربما يأتي تفصيله والخوف المتعلق بالآخرة خاف غير الله، وتعلق خوفه بغير الله؛ لأجل ذلك لأجل أنه يخاف ألا ينفعه ذلك الإله في الآخرة، فلأجل رغبة أن ينفعه ذلك الإله في الآخرة وأن يشفع له، وأن يقربه منه في الآخرة، وأن يبعد عنه العذاب في الآخرة خاف منه، فأنزل خوفه به، فالخوف من العبادات العظيمة التي يجب أن يفرد الله -جل وعلا- بها، وسيأتي مزيد تفصيل لذلك.

القسم الثاني:الخوف المحرم وهو أن يخاف من مخلوق لامتثال واجب أو البعد عن المحرم مما أوجبه الله، أو حرمه يخاف من مخلوق في أداء فرض من فرائض الله يخاف من مخلوق في أداء واجب من الواجبات، لا يصلي خوفا من مخلوق، لا يحضر الجماعة خوفا من ذم المخلوق له، أو استنقاصه له، هذا محرم، قال بعض العلماء: وهو نوع من أنواع الشرك يترك الأمر والنهي الواجب بشرطه خوفا من ذم الناس أو من ترك مدحهم له، أو من وصفهم له بأشياء، هذا خوف رجع على الخائف بترك أمر الله هذا محرم. لأن الوسيلة إلى المحرم محرمة.

النوع الثالث: الخوف الطبيعي المأذون به هذا أمر طبيعي كخوف من عدو أو خوف من سبع أو خوف من نار خوف من مؤذي ومهلك ونحو ذلك،
قال: باب قول الله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

وجه الاستدلال من هذه الآية إنه قال: "فلا تخافوهم" وهذا نهي والنهي للتحريم، ونهى عن إنزال عبادة الخوف بغيره، فهذا يدل على أنه نهي عن أحد أفراد الشرك، قال: وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وأمر بالخوف، فدل على أن الخوف عبادة من العبادات، وتوحيد الله بهذه العبادة توحيد وإشراك غير الله معه في هذه العبادة شرك؛ ولهذا قال: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ و الخوف من الخلق كما ذكرنا في ترك فريضة الجهاد إنما يكون من جراء الشيطان، فالشيطان هو الذي يخوف المؤمنين من أوليائه، ويخوف أهل التوحيد وأهل الإيمان من أعداء الله -جل وعلا- لكي يتركوا الفريضة؛ فلهذا صار ذلك الخوف محرما، يعني: الخوف من الأعداء الذي يترتب عليه ترك فريضة من فرائض الله من الجهاد وغيره.

والواجب ألا يخاف العبد إلا ربه -جل وعلا- وأن ينزل خوفه به، وألا يخاف أولياء الشيطان، وقوله -جل وعلا- هنا: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ معناها على الصحيح من التفسير، أو على الراجح، يخوفكم أوليائه، يعني: يخوف أهل الإيمان أولياء الشيطان، ففاعل يخوف محذوف دل عليه السياق، يخوف الناس، الفاعل هو الشيطان يخوف الشيطان الناس أولياءه، أولياء الشيطان يعني: يجعل الشيطان أهل التوحيد في خوف من أعدائهم؛ لهذا قال السلف في تفسيرها: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ يعني: يخوفكم أولياءه.

وهذا ظاهر من الآيات قبلها، كقوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قال الشيخ -رحمه الله-: وقوله: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ وجه الدلالة من الآية قوله: وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ وهذا نهي واستثناء، ومر معنا أن مجيء أداة الاستثناء بعد النفي يدل على الحصر والقصر، فإذن الآية دالة بظهور على أن الخشية يجب أن تكون في الله، وأن الله أثنى على أولئك بأنهم جعلوا خشيتهم في الله وحده، دون ما سواه، والخشية أخص من الخوف.

قال: وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ جعل فتنة الناس كعذاب الله بأن خاف منها، فترك ما أوجب الله عليه، أو أقدم على ما حرم الله عليه خشية من كلام الناس.

قال: عن أبي سعيد -رضي الله عنه- مرفوعا: إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره .

وجه الاستدلال من هذا الحديث: قوله: إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله من ضعف اليقين يعني: من أسباب ضعف الإيمان، والذي يضعف الإيمان المحرمات، لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فدل على أن إرضاء الناس في سخط الله معصية وذنب ومحرم؛ لأن هذا الذي أرضى الناس بسخط الله خافهم أو رجاهم، وهذا مناسبة إيراد الحديث بالباب.

قال: وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس رواه ابن حبان في صحيحه.

هذا الجزاء الذي أفرد الله بعبادة الخوف هو جزاء الذي لم يكمل التوحيد بعبادة الخوف، فالذي التمس رضا الله في سخط الناس، هذا عظم الله وخافه، ولم يجعل فتنة الناس كعذاب الله، بل جعل عذاب الله -جل وعلا- أعظم وخاف الله وخشيه، وطمع فيما عنده، فلم يلتفت إلى الناس، ولم يرفع بهم رأسا، قال: ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس لأنه ارتكب ذنبا أن خاف الناس، وجعل خوفه من الناس سببا لعمل المحرم أو ترك فريضة من فرائض الله؛ لهذا قال: من التمس رضا الناس بسخط الله فكان جزاءه أن سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.


شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ

0 commentaires

إرسال تعليق